حوار على حافة الانتظار / محمد ولد عمار

في اللحظة التي يتهيأ فيها المشهد السياسي الموريتاني لالتقاط أنفاسه، يعود الحديث عن الحوار مثل موجة تأتي من بعيد: تسمع قبل أن ترى، ويبالغ في وصفها قبل أن تتشكل. ذلك أن الحوار هنا ليس مجرد لقاء بين أطراف، بل مرآة لعمق الأزمة، وميزان لوزن النيات، وامتحان لقدرة الطبقة السياسية على تجاوز منطق تسجيل النقاط إلى منطق إنقاذ سفينة تتقدم ببطء في بحرٍ تزداد فيه العواصف.

لا جديد معلنا حتى الآن، وهذا في ذاته جديد؛ لأن الفراغ أحيانا أخطر من الامتلاء، ولأن الصمت حين يطول يكشف رغبات مكتومة وتصورات متشابكة. الأطراف السياسية، بكل أطيافها، تتحرك بحذر؛ السلطة تريد حوارا لا يفتح أبوابًا أكثر مما يغلق، والمعارضة تبحث عن طاولة لا تكون مجرّد ديكور سياسي، بل مساحة فعل حقيقية. وبينهما شارع ينتظر، لكنه ينتظر بلا أوهام؛ فقد جرب من قبل حوارات تنتهي إلى بيانات موقعة أكثر مما تنتهي إلى واقع ملموس.

المناخ السياسي الآن يختلف عن سابقاته. هناك شعور عام بأن البلد يعيش مرحلة انتقالية غير معلنة: انتقال في الوعي، في طبيعة التحديات، وفي شكل الاصطفافات. ملفات الأمن في الساحل، والاقتصاد المتعثر، والغضب الاجتماعي الخافت، كلها تجعل من أي حوار ليس ترفا سياسيا بل ضرورة وطنية. ومع ذلك، فإن الضرورة وحدها لا تصنع التفاهمات، لأن السياسة ليست معادلة حسابية، بل شبكة من المصالح والرموز والرسائل المشفرة.

التفاهمات المحتملة اليوم لا تزال في طور الهمس. بعضها يدور حول إعادة ترتيب المشهد الانتخابي المقبل، وبعضها حول ضمانات المشاركة السياسية، وبعضها الآخر يتجه نحو إصلاحات مؤسسية مؤجلة منذ سنوات. لكن واقع الحال يقول إن كل تفاهم لا يكون متبادلا لن يعيش طويلا، وإن أي طاولة لا تبنى على الثقة ستتحول إلى منصة لعرض الخلاف لا لحله.

الرهان الأكبر ليس في ما يوقع  عليه، بل في ما يطبق فعليا. المواطن البسيط لم يعد يقرأ البيانات، لكنه يقرأ الواقع: هل تغير؟ هل تحسن؟ هل اقتربت المنظومة من همومه بدل أن تبتعد؟ لقد أصبح الشارع أصدق جهاز لقياس المصداقية، وأي حوار لا ينعكس على يومه العادي سيدفن في ذاكرة أرشيفية مثل كثيرين من قبله.

إن مآلات الحوار، بكل صدق، ليست رهينة ما يقال، بل رهينة الإرادات ؛ هل هناك استعداد لتقديم تنازلات مؤلمة؟ هل هناك وعي بأن البلد أكبر من الأحزاب، وأن المستقبل أكبر من مقاعد البرلمان؟ وإذا لم تتبلور هذه الإرادة، فإن الحوار سيعود إلى كرته القديمة: حوارا يفتتح بوعود كبيرة، ويختتم بصمت أكبر.

ومع ذلك، يبقى الأمل قائما، لأن السياسة حين تستنزف كل خياراتها تعود إلى أصلها: الجلوس، الكلام، البحث عن منطقة ضوء مشتركة وسط العتمة. وحين يحدث ذلك، سيكون الحوار ليس حدثا عابرا، بل نقطة تحول. وحتى يحين ذلك، سيبقى السؤال : ماذا يخبئ الجراب هذه المرة؟