في لحظة تتكاثف فيها الأجنحة داخل السلطة وتتناسل التأويلات من كل اتجاه، يبدو المشهد السياسي الموريتاني وكأنه يسير على خيط مشدود بين ضرورات التوازن ومتطلبات الهيبة. فليس كل صراعٍ سياسي خطرا، ولا كل اختلاف تهديدا، لكن المشكلة تبدأ حين يتحول الصراع بين شركاء الحكم إلى ضربٍ تحت الحزام، أو إلى تراشق يعري مؤسسات الدولة بدل أن يحصنها، ويكشف صيرورة العمل بدل أن يحفظ هيبتها. فالدولة ليست مجرد بنايات وإدارات، بل هي إحساس المواطن بأن هناك سلطة قادرة على الإمساك بدفة السفينة، وأن الخلافات مهما تعمقت تبقى تحت سقف الوطن، لا فوقه.
الشارع اليوم لا يخاف من تعدد الأصوات، فذلك طبيعي في أي منظومة سياسية حية؛ لكنه يخشى عندما تتشقق جدران البيت الواحد، وعندما يصبح صراع الأجنحة مادة للتداول اليومي تتناقلها المنابر، فيشعر الناس وكأن من يمسكون المفاتيح يقفون على قارعة الطريق ينتظرون من يصفق لهم، لا من يثق بهم. إن أخطر ما في صراع الشركاء هو أن يتجاوز حدود التكتيك السياسي ليصل إلى ما يمس الثقة العامة، فثقة المواطن ليست مجرد رأي، بل هي العمود الفقري الذي تقوم عليه هيبة الحكم.
إن التراشق الذي يخرج عن دائرة الانضباط يضرب صورة الدولة قبل أن يضرب أي طرف سياسي. فحين ينكشف المستور، أو تُعرى بعض تفاصيل آليات العمل، يشعر المواطن بأن البيت الداخلي مهزوز، وأن من يفترض أنهم حماة الاستقرار يضعون الوطن أحيانا في زاوية التجريب. وليس أسوأ من أن تستباح اللغة السياسية إلى درجة يصبح معها كل شيء مباحا، وكل اتهام قابلا للتداول، وكأن الوطن ساحة ملاكمة لا قاعة إدارة.
وفي المقابل، ليس المطلوب اختناق الرأي ولا دفن الخلافات، وإنما تهذيب هذا الصراع وإعادته إلى قواعده الطبيعية ؛ تنافس في الرؤى لا تصارع في الظلام، اختلاف لا ينقلب إلى تصفية حسابات، وتوازن يضمن أن تبقى مؤسسات الدولة فوق نزوات الأفراد. فالوطن أكبر من الأجنحة جميعًا، والبلد الذي يطمح إلى ترسيخ الاستقرار لا يتحمل أن يكون سياسيوه هم مصدر القلق.
على الفاعلين اليوم أن يدركوا أن مراعاة هيبة السلطة ليست تنازلا، بل واجبا وطنيا، وأن كل شيء يمكن احتماله إلا ما يمس صورة الدولة أو يكشف ضعفها أمام أعين مواطنيها. فالأنظمة لا تسقط عادة بالقوة، بل تتآكل بالاهتزازات الصغيرة التي يراها الناس ولا يتحدثون عنها، حتى تتحول فجأة إلى شعور عام بأن الأمور لا تسيير في الإتجاه الصحيح. لذلك فإن الحكمة السياسية تقتضي أن يبقى الخلاف داخل إطاره الطبيعي، وأن تُحاط مؤسسات الدولة بسياج من المسؤولية، لأن استمرار شموخ الوطن يبدأ من داخل بنائه السياسي نفسه.
إن تهذيب الصراع اليوم ليس نصيحة ولا ترفا، بل ضرورة لحماية الوطن حتى من أولئك الذين يملكون حسن النية ولا يدركون أن بعض الضجيج قد يتحول إلى شرخ، وأن بعض الخطوات غير المحسوبة قد تترك أثرا يبقى بمرور الأيام. ففي النهاية، تبقى موريتانيا أولاً، ويبقى الوطن هو السقف الذي يجب أن يظل أعلى من كل الطموحات، وأقوى من كل الخلافات.

