في عالم تتسارع فيه وتيرة الأحداث، وتتداخل فيه المصالح، ويعلو فيه صوت الضجيج على حساب الحكمة، تبرز الحاجة الملحة إلى خطاب مسؤول، يتكئ على ثوابت راسخة، ويلتزم بضوابط دقيقة، ويؤمن بأن الكلمة – حين تُقال – تحمل في طياتها أمانة ثقيلة.
الخطاب المسؤول ليس ترفًا لغويًا، ولا رفاهية نظرية، بل هو ضرورة وطنية وأخلاقية، تتطلب من كل فاعل في المجال العام – سياسيًا كان أم إعلاميًا أم اجتماعيًا – أن يعي أن للكلمة وزنًا، وللمعلومة أثرًا، وللتصريح تبعات لا تُحصى.
في كثير من الأحيان، نرى الخطابات تتجاوز حدود اللياقة والصدق، وتغرق في الشخصنة والتأجيج، حتى يتحول المنبر إلى منحدر، والقول إلى فتيل يهدد الاستقرار والسلم الأهلي. وهنا يكون الخطر أكبر من مجرد زلة لسان، بل يتحول إلى تقويض لقيم المواطنة، وتغذية لخطابات الكراهية والانقسام.
وفي واقعنا، حيث تتقاطع الهويات القبلية والجهوية والإثنية، وتتشابك تحديات التنمية والعدالة الاجتماعية، يصبح الخطاب المسؤول أداة حيوية لحماية النسيج الوطني. الكلمة التي تُفرّق بين أبناء الوطن تترك جروحًا قد تستغرق أجيالاً في التئامها، فيما الخطاب الذي يؤكد على القواسم المشتركة، ويُبرز التعدد بوصفه ثروة لا تهديدًا، يعزز من صمود الدولة ومصداقية المؤسسات.
إن الضوابط التي ينبغي ان تحكم الخطاب المسؤول تبدأ من:
1. احترام الحقيقة، فلا يجوز ترويج الشائعات أو تزوير الوقائع لخدمة أهداف ضيقة.
2. الالتزام بالمصلحة العامة، بعيدًا عن الخطابات الشعبوية أو الاستفزازية.
3. التحلي بالمسؤولية الوطنية، خاصة في المواضيع الحساسة المرتبطة بالوحدة الوطنية، والأمن العام، والعدالة الاجتماعية.
4. نبذ الخطابات العنصرية والقبلية والجهوية، التي لا تخدم إلا التشرذم وتفكيك النسيج الوطني.
5. الابتعاد عن الإثارة الزائفة، التي تسعى لخلق ترندات سريعة على حساب القيم والمبادئ.
نحن اليوم، في حاجة إلى خطاب يبني لا يهدم، يوحّد لا يفرّق، يوجّه لا يُضلّل. خطاب ينتمي إلى الأرض، ويحترم السماء، ينهل من القيم، وينشد الصالح العام.
فالخطاب، في جوهره، انعكاس لضمير صاحبه، فإن كان الضمير حيًا، جاء القول حكيمًا، وإن كان ميتًا، فالكلمة تصبح خنجرًا في خاصرة الأمة.
لنعد الاعتبار للكلمة، ولنجعل من المنابر فضاءات للإصلاح لا للتحريض، للتنوير لا للتضليل، ولنعلم أن المجتمعات لا تنهض بالخطب الرنانة، بل بالخطابات الرصينة، التي تراعي الأمانة، وتخشى الله، وتحترم العقل.
فالكلمة مسؤولية، ومن لم يكن لها أهلًا، فليصمت... فـ"ربّ كلمة قالت لصاحبها دعني".