في عالم تتسارع فيه وتيرة التغيير، وتتعاظم فيه التحديات، لم يعد الحديث عن التطوير مجرّد شعارات فضفاضة أو برامج نظرية، بل أصبح مسألة مرتبطة بمدى قدرة الدول على الاستثمار في رأس مالها البشري وبناء مؤسسات قوية وفاعلة. فالإنسان هو صانع التنمية وهدفها في آن واحد، والمؤسسة هي الإطار الذي يضمن استمرارية هذا الجهد وتحويله إلى واقع ملموس.
الرهان على العنصر البشري يبدأ من التعليم النوعي الذي يفتح أمام الفرد آفاق المعرفة والابتكار، مرورًا بالتدريب المستمر وتأهيل الكفاءات، وصولًا إلى خلق بيئة محفّزة تُمكّن العقول من الإبداع وتُقدّر الجهد. ولنا أن نتأمل تجارب الدول التي تحوّلت من اقتصادات هشة إلى قوى صاعدة، لنجد أن سر نجاحها كان في بناء إنسان متعلم، واعٍ، وملتزم بقيم العمل والمسؤولية.
لكن العنصر البشري وحده، مهما بلغت قدراته، يحتاج إلى مؤسسات راسخة: مؤسسات تدار بالكفاءة لا بالمحسوبية، تقوم على الشفافية والمساءلة، وتتمتع بالقدرة على التخطيط بعيد المدى وتنفيذ السياسات بفعالية. فغياب البناء المؤسسي يجعل الإنجازات عرضة للانهيار مع أي أزمة سياسية أو اقتصادية.
إن الرهان الحقيقي لمستقبل الدول النامية ـ ومن بينها موريتانيا ـ هو الجمع بين تمكين الإنسان وتقوية المؤسسات. فبدون الإنسان المؤهل، تبقى المؤسسات هياكل خاوية، وبدون المؤسسات القوية، يتحول الإنسان المبدع إلى طاقة مُبَدَّدة. التنمية المستدامة هي معادلة طرفاها الإنسان والمؤسسة، ونجاحها يتوقف على مدى قدرتنا على الموازنة بينهما.
إنها دعوة مفتوحة لأن نعيد ترتيب أولوياتنا، فنضع الاستثمار في العقول وتحصين المؤسسات في صميم مشروعنا الوطني، لا بوصفه خيارًا تكميليًا، بل باعتباره الرهان الحتمي على البقاء والتقدم.