في زمن تتسارع فيه الأحداث وتتشابك فيه الأفكار، يصبح وجود القدوة أشبه بالبوصلة التي تهدي الحائرين، والنور الذي يبدّد عتمة الطريق. فالقدوة ليست مجرد شخص يُعجب به الناس، بل هي حالة أخلاقية وسلوكية وفكرية تتجسد في إنسان يصبح نموذجًا يحتذى، ومرآة تعكس ما نطمح أن نكونه.
القدوة الحقيقية تُلهم الأجيال بالصمت أكثر من الخطب، وبالمواقف أكثر من الشعارات. هي من تترجم المبادئ إلى أفعال، وتجعل القيم تسير على الأرض. لذلك، فإن الترويج للقدوة ليس ترفًا إعلاميًا أو نشاطًا دعائيًا، بل هو ضرورة استراتيجية لبناء وعي الأمة، وتحفيز الشباب على السير في مسارات البناء لا الهدم، والعطاء لا الأنانية.
إن صناعة القدوة تبدأ من التربية، حين نعلّم أبناءنا أن البطولة ليست في الشهرة الزائفة ولا في جمع الثروة بأي ثمن، بل في أن يكون المرء نافعًا لمجتمعه، ثابتًا على الحق، مخلصًا في العمل. ثم يأتي دور الإعلام والمدرسة والمنبر الثقافي في تسليط الضوء على النماذج المشرقة، وتقديمها للناس بطريقة ملهمة، تُظهر إنسانيتها قبل إنجازاتها.
وللأسف، حين يغيب هذا الدور، يتسلل إلى الساحة "نجوم" بلا رسالة، و"مشاهير" بلا قيمة، فيتصدّر المشهد من لا يستحق، وتضيع القدوة الحقيقية بين الضجيج والسطحية. وهنا تكمن خطورة ترك الساحة فارغة، لأن الفراغ لا يبقى فراغًا، بل يملؤه أي نموذج عابر.
خلق القدوة هو استثمار طويل الأمد، فحين يرى الطفل معلّمه قدوة، والشاب قائده قدوة، والمجتمع رموزه قدوة، تتشكل منظومة قيمية متماسكة، لا تهتز أمام المغريات ولا تنكسر أمام الأزمات. وهذا هو الفرق بين أمة تصنع التاريخ، وأمة تكتفي بمشاهدته من بعيد.
إننا بحاجة إلى مشروع وطني متكامل لصناعة القدوة والترويج لها، مشروع يُعيد الاعتبار لمن قدّموا وضحّوا وبنوا بصمت، ويجعل من سيرهم منارات للأجيال القادمة. لأن الأوطان لا تبنى بالحجارة وحدها، بل بالقدوات التي تحرّك القلوب وتشعل العقول.