لم يعد الفرق بين السياسي والتكنوقراطي سوى وهمٍ يتلاشى في تفاصيل المشهد اليومي. فالسياسيون الذين ملأوا الدنيا شعارات عن "التغيير" و"الشرعية الديمقراطية"، يختبئون خلف لغة الأرقام وخطط التنمية، وكأنهم خبراء اقتصاد لا علاقة لهم بصراعات القبيلة والجهة. وفي المقابل، التكنوقراط الذين قدموا أنفسهم ككفاءات مهنية محايدة، سرعان ما انغمسوا في وحل الولاءات الضيقة، فصاروا يخطبون ودّ الشيوخ، ويتسابقون إلى بركة القبيلة قبل أن يتحدثوا عن أي مشروع وطني.
السياسي اليوم يفتقد مشروعاً حقيقياً، إذ يكتفي بلعبة التوازنات وإعادة إنتاج الخطاب التقليدي، بينما يغطي عجزه بلغة التنمية المستعارة من تقارير تذكر هنا و هناك. أما التكنوقراطي، الذي كان يُفترض أن يمثل صوت الكفاءة والنزاهة، فقد ضاع في متاهة المناصب، فصار مسؤولاً بوجه سياسي ولسان قبلي، حتى نسي أنه خُلق أصلاً لخدمة الدولة لا لإرضاء جماعة أو رجل نافذ.
هذا الذوبان لم يخلق نموذجاً عصرياً، بل كرس حالة رمادية خطيرة:
السياسي لا يُحاسَب لأنه يختبئ وراء خطاب "المعوقات الإدارية".
والتكنوقراطي لا يُحاسَب لأنه يبرر عجزه بـ"خيارات سياسية عليا".
وفي النهاية، المواطن هو من يدفع الثمن: مشاريع متعثرة، تنمية غائبة، وبطالة متفشية، بينما النخب مشغولة بمعارك عبثية على المقاعد والمناصب.
لن تستقيم المعادلة إلا إذا عادت الأمور إلى نصابها:
السياسي يضع الرؤية ويُحاسَب عليها.
التكنوقراطي ينفذ بكفاءة ويُحاسَب على أدائه.
غير ذلك مجرد خداع جماعي، تُذَوَّب فيه الفوارق عمدًا ليبقى الشعب خارج اللعبة، وليستمر الحكم عبر شبكات الولاء لا عبر مشروع وطني حقيقي.
لم يذُب الصراع بين السياسي والتكنوقراطي لصالح التنمية، بل ذاب لصالح التمويه والمراوغة. والسياسي والتكنوقراطي اليوم، رغم اختلاف المظهر، وجهان لعملة واحدة: عملة تُتداول في سوق الولاءات لا في سوق الكفاءة.