شروط النشر واحترام القانون وحرية الصحافة: توازن معقّد بين الضمانات والمسؤوليات

تمثل حرية الصحافة أحد أعمدة الديمقراطية وركائز المجتمع المدني، إذ تضمن تدفق المعلومات وتبادل الآراء بين مختلف الفئات. إلا أن هذه الحرية لا يمكن أن تُمارس بمعزل عن ضوابط قانونية وأخلاقية تحفظ النظام العام وتحمي الحقوق الفردية والجماعية. وفي ظل التحديات السياسية والاجتماعية والثقافية المتشابكة التي تشهدها المجتمعات المعاصرة، تبرز الحاجة إلى مقاربة متوازنة تراعي شروط النشر، واحترام القانون، دون المساس بجوهر حرية التعبير والصحافة.

أولاً: البعد السياسي – حرية الصحافة في ميزان السلطة والرقابة

في السياق السياسي، تُعد حرية الصحافة مقياسًا لمدى التزام الدولة بالحكم الرشيد والديمقراطية. إلا أن بعض الأنظمة، خاصةً السلطوية منها، تلجأ إلى سنّ قوانين فضفاضة تحت مسمى "أمن الدولة" أو "مكافحة الأخبار الكاذبة" لقمع الأصوات المعارضة وملاحقة الصحفيين. وفي المقابل، فإن النظم الديمقراطية تسعى إلى تحقيق توازن بين حرية النشر وضرورات الأمن القومي، من خلال آليات قضائية تضمن المحاسبة دون الترهيب.

الجدير بالذكر أن بعض القوانين الإعلامية قد تُستخدم كسلاح سياسي لإسكات الصحافة الاستقصائية أو فرض الرقابة على المحتوى الإعلامي الرقمي، مما يجعل احترام القانون في هذه الحالة رهينًا بمدى استقلالية القضاء ونزاهة المؤسسات.


ثانيًا: البعد الاجتماعي – الإعلام بين الحرية والمسؤولية المجتمعية

في المجتمع، تلعب الصحافة دورًا جوهريًا في تشكيل الرأي العام وتعزيز الوعي المدني. ومع تطور أدوات النشر الرقمي، أصبح الصحفي اليوم مسؤولًا ليس فقط أمام القانون، بل أيضًا أمام مجتمع متنوع التوجهات والانتماءات. وهنا تبرز أهمية مراعاة القيم الاجتماعية والمكونات الثقافية للمجتمع، لا سيما في المجتمعات متعددة الأعراق والطوائف.

فالمحتوى الصحفي غير المسؤول قد يؤدي إلى إثارة النعرات الطائفية أو العرقية أو إحداث حالة من الفوضى. لذا، فإن شروط النشر يجب أن تتضمن التزامًا أخلاقيًا يضع في الحسبان حساسية المواضيع المنشورة، ومدى تأثيرها على النسيج الاجتماعي، دون أن يتحول ذلك إلى رقابة أخلاقية خانقة لحرية التعبير.

 

ثالثًا: البعد الثقافي – احترام الخصوصيات ومراعاة التنوع

ثقافيًا، تختلف معايير الحرية والمسؤولية من مجتمع إلى آخر، حسب الإرث الثقافي والقيم السائدة. وفي هذا الإطار، تبرز الحاجة إلى صحافة واعية بالسياق الثقافي، تتجنب الخطاب العدائي أو التحقيري، وتحترم الرموز والمقدسات الدينية، دون أن تقع في فخ الرقابة الذاتية التي تفرغ العمل الصحفي من جوهره النقدي.

فحرية النشر لا تعني تجاهل الخصوصيات الثقافية أو تهميش ثقافة "الآخر"، بل تقتضي ممارسة واعية وشاملة تحترم التنوع وتنبذ خطاب الكراهية والتحريض. ومن هنا، فإن شروط النشر لا تقتصر على اللوائح القانونية فقط، بل تشمل أيضًا منظومة القيم التي تحكم العلاقة بين الإعلام والجمهور.


رابعًا: الإطار القانوني – بين النصوص والممارسات

تشترط القوانين في غالبية الدول أن يلتزم النشر بمبادئ النزاهة، والصدق، واحترام الحياة الخاصة، وعدم التشهير أو نشر الأكاذيب. غير أن الفارق بين النصوص القانونية والممارسات الفعلية يظل محل جدل، حيث تُستخدم بعض المواد القانونية بشكل انتقائي لملاحقة الصحفيين أو حجب المواقع الإخبارية.

في المجتمعات التي تفتقر لاستقلالية القضاء، تتحول القوانين من أدوات تنظيم إلى أدوات قمع. أما في الدول التي تتبنى مبدأ "حرية مسؤولة"، فإن القانون يحمي الصحافة من تغول السلطة، ويضمن للصحفي حق الدفاع عن نفسه واللجوء للقضاء المستقل في حال النزاع.

 

خامسًا: التحول الرقمي وتحديات جديدة لحرية النشر

مع صعود الإعلام الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي، دخلت حرية النشر مرحلة جديدة أكثر تعقيدًا. فالمواطن العادي بات قادرًا على إنتاج محتوى إعلامي والتأثير في الرأي العام، مما يستدعي تطوير قوانين أكثر شمولًا ومرونة تراعي هذا التحول، دون أن تتحول إلى قيود على المستخدمين أو الصحفيين.

ويطرح الفضاء الرقمي تحديات إضافية مثل الأخبار الزائفة، والقرصنة، والتلاعب بالمحتوى، ما يتطلب تفعيل أدوات للتحقق والتدقيق، وتطوير ثقافة رقمية لدى الصحفيين والجمهور على حد سواء.


 نحو ميثاق توافقي بين الحرية والمسؤولية

إن حرية النشر لا تعني الفوضى، كما أن احترام القانون لا يعني بالضرورة القمع. المطلوب هو ميثاق توافقي يجمع بين الضمانات القانونية لحرية الصحافة، والالتزام الأخلاقي بمسؤوليات النشر. هذا التوازن لا يمكن تحقيقه إلا بوجود بيئة قانونية عادلة، ومؤسسات إعلامية مهنية، وجمهور واعٍ بحقوقه وواجباته.

إن مستقبل حرية الصحافة مرتبط بقدرتنا على تحويل المبادئ إلى ممارسات، والقوانين إلى حماية فعلية، لا إلى أدوات للمنع والتكميم.

محمد ولد عمار