"صراع اشباح ....ام معركة افكار؟"/ محمد ولد عمار

يمرّ الخطاب السياسي في موريتانيا اليوم بمرحلة انتقالية معقدة، تتجاذبه ثنائية اليمين واليسار، لكن هذه الثنائية لم تعد تشير إلى خطوط أيديولوجية واضحة بقدر ما تحيل إلى منظومات تموضع داخل الحقل السياسي، وإلى آليات اشتغال مختلفة في التفسير والتأثير. فالمشهد الحزبي لا يُنتج يمينًا أو يسارًا بالمعنى الكلاسيكي، بقدر ما يُنتج روايات متنافسة حول السلطة والدولة والمجتمع، ما يجعل الخطاب السياسي أقرب إلى فسيفساء من التأويلات المتداخلة لا إلى خريطة أيديولوجية مستقرة.

في جانب ما يمكن تسميته “يمينًا” داخل السياق المحلي، يظهر خطاب يميل إلى المحافظة الاجتماعية، وتأكيد مركزية الدولة بوصفها الضامن للاستقرار، مع الإعلاء من شأن الهوية التقليدية باعتبارها رصيدًا سياسيًا ورمزيًا. هذا الخطاب يستمد قوته من البنى الاجتماعية الراسخة، ومن شبكة روابط تجعل رسائله ذات صدى سريع لدى الجمهور الذي يبحث عن ضمانات للاستمرارية في ظل تقلبات الاقتصاد وضعف البنى الإنتاجية. لكنه في الحقيقة ليس يمينًا اقتصاديًا كما في التجارب الأخرى، بل يمينًا قيميًا ورمزيا، أكثر ارتباطًا بالحفاظ على تماسك الجماعة منه بالاختيارات الليبرالية أو المحافظة على السوق.

أما ما يصنف ضمن “اليسار”، فخطابه يمثل محاولة لتقديم قراءة نقدية لمعادلات السلطة والثروة، مع التأكيد على العدالة الاجتماعية، ومحاربة التهميش، وإعادة توزيع الأدوار داخل الدولة والمجتمع. غير أن هذا الخطاب يعيش مفارقة صعبة: فهو يملك ذخيرة تحليلية واسعة، لكنه يعاني ضعفًا في القدرة على تحويل التحليل إلى لغة جماهيرية مقنعة. كما أن التقلب المستمر في السياق السياسي يجعل هذا الخطاب عرضة للتشتت بين المبدأ والوظيفة، بين التحليل البنيوي ومقتضيات اللحظة، ما يضعفه في مواجهة خطاب يميني أكثر قدرة على تبسيط الرسالة وحشد المشاعر الجمعية.

لكن الواقع السياسي لا يُختزل في هذا الانقسام؛ فالتداخل بين الخطين كبير إلى حدّ يجعل الحدود بينهما غير صلبة. فاليمين يستعير أحيانًا لغة العدالة الاجتماعية حين تقتضي اللحظة ذلك، واليسار بدوره يميل إلى البراغماتية حين يجد نفسه أمام حسابات المشاركة السياسية. هذه الوضعية تجعل الخطاب السياسي في موريتانيا غير محسوم الهوية، وتخلق حالة من الإرباك التي تعيق تشكل مشروع وطني جامع قادر على توجيه خيارات الدولة بعيدًا عن الارتجال.

ورغم هذه التحديات، فإن الآفاق ليست مغلقة. الخطاب السياسي الموريتاني قادر على التطور إذا تحرر من أسر الزبونية ومن مركزية الولاءات الضيقة، وإذا توجه نحو بناء رواية وطنية تشرك المجتمع لا بوصفه جمهورًا متلقيًا بل بوصفه فاعلًا. المستقبل يتطلب خطابًا يتجاوز ثنائية اليمين واليسار التقليدية، ويركز بدل ذلك على عناصر جديدة: بناء دولة الخدمات، تعزيز الثقة بين المواطن والمؤسسات، إعادة تعريف دور الاقتصاد الاجتماعي، وتحويل القضايا التي تُستثمر انتخابيًا إلى سياسات عامة قابلة للقياس والتقييم.

إن تجاوز مأزق الخطاب السياسي الموريتاني يتطلب من مختلف الأطياف إعادة صياغة معادلة التأثير: فاليمين مدعو إلى تحديث لغته لتناسب مجتمعًا يتغير بوتيرة أسرع من بنيته التقليدية، بينما اليسار مُلزم بإعادة توجيه خطابه نحو لغة عملية تربط بين النقد البنيوي والحلول الواقعية. وبين الاثنين، تبقى الحاجة ملحّة لظهور خطاب ثالث، لا ينفي ثنائية اليمين واليسار لكنه يتخطاها، خطابٍ يرسم أفقًا سياسيًا جديدًا يُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع على قاعدة المواطنة، لا على قاعدة الولاءات القديمة أو الشعارات المؤقتة.