التسلل من الخلف... الزحف الناعم / محمد ولد عمار

حين تنظر إلى المشهد السياسي  بعين المتأمل لا بعين المتعجل، تدرك أن القوة لا تُمارس بالاصطدام، وأن المواجهة المباشرة تُنبه الخصم وتستفزه، بينما الاختراق الهادئ يفتح الأبواب دون ضجيج. لقد أدركت الحركات السياسية متأخرة أن الدخول من الأمام يُثير الحراسة، أما التسلل من الخلف إلى مفاصل السلطة، فذلك هو الطريق الذي لا تُسمع فيه الخطوات. السياسة لا تُخاض بالصوت المرتفع، بل بذكاء الصمت، ولا تُربح بالتصريح، بل بالإيحاء والمرونة. إن من يسعى إلى النفوذ في أرض تحكمها التوازنات ، عليه أن يفهم أن الاصطفاف الصلب يُكسر، بينما المرن يلتف ويُمسك الجذر. لذلك غيّرت القوى السياسية في طريقها، فتركت الصدام والشعارات، وأخذت طريق المهادنة والمسايرة، تُغلف نيتها بخطابٍ ناعم، وتخفي سعيها تحت غطاء المصلحة الوطنية والواقعية السياسية. لم تعد ترى في الشارع طريقاً، ولا في الجماهير سنداً، بل صارت تطرق أبواب السلطة من الداخل، تُقدّم الولاء المغلف بالنقد، والنقد الممشوق بالمدح، حتى صار الخصم والموالِ قريبين في اللغة، متشابهين في الغاية، مختلفين فقط في الموقع. إن مغازلة من في السلطة أصبحت فناً في حدّ ذاتها، لا يمارسها إلا من فهم أن الكلمة قد تفتح كل شيئ. فبدلاً من الهجوم، هناك التقرب، وبدلاً من القطيعة هناك التنسيق، وبدلاً من الصدام هناك التسلل. وكل ذلك يُبرَّر بعباراتٍ كبرى: المصلحة العامة، حماية الاستقرار، دعم التوازن. لكنها في العمق وسائل لضمان البقاء في المشهد من دون دفع ثمن المواجهة. أما السلطة، فقد تعلمت بدورها أن الصدام يخلق خصوماً، بينما الاحتواء يخلق تابعين. لذلك فتحت الأبواب للمتسللين، تدعوهم باسم المشاركة، وتُجلسهم باسم الانفتاح، حتى إذا دخلوا نسوا شعارهم القديم، وانشغلوا بما في الداخل عن الغاية التي كانت في الخارج. وهكذا صارت اللعبة السياسية شطرنجاً متبادلاً، من ظن أنه يخترق قد يُخترق، ومن ظن أنه يسيطر قد يُسيطر عليه، فالذكاء في هذه الساحة ليس في القوة، بل في القدرة على التمويه. لكن حين تُصبح السياسة ساحة للمناورة لا للموقف، تفقد معناها. حين تتحول المبادئ إلى أدواتٍ للتفاوض، يفقد القول قيمته. إن الذي يتسلل بحثاً عن موقع، قد يجد نفسه في الظل أبداً، والذي يُساير حفاظاً على البقاء، يُمحى أثره حين تتبدل الرياح. فليس كل تراجع حكمة، ولا كل لين دهاء. هناك لحظة يصبح فيها الصمت ضعفاً، والمهادنة تواطؤاً، والتسلل خيانة للفكرة الأصلية. هكذا يتبدى المشهد : وجوه تتبدل وخطابات تتشابه، والجميع يقترب من المركز كمن يقترب من النار ببطء. بعضهم يحسب أنه يمسك بزمام اللعبة، وبعضهم لا يدري أنه صار رقعة فيها. فالسلطة التي تفتح الأبواب لا تفعل ذلك إلا لتعرف من يدخل، ومن يحلم بالاختراق لا يدرك أنه يُراقب منذ أول خطوة. إن التسلل إلى مفاصل السلطة فنٌ من فنون البقاء، لكنه في جوهره اعتراف بالعجز عن التغيير الحقيقي. إنه طريقٌ ناعم لكنه زلق، قصير لكنه لا يؤدي إلى القمة. من يتقنه يربح لحظة، ومن يعتمد عليه يخسر التاريخ. لأن السياسة، كما الحرب، لا تُكسب بالتحايل فقط، بل بالوضوح والموقف، ومن لا يملك قضية حقيقية، سيُستعمل أداة في قضية غيره دون أن يدري.