في زمن التحديات الكبرى والمفترقات الحاسمة، تبرز قضية الولاء للوطن كميزان دقيق يُظهر مدى صدق الانتماء وصفاء النية تجاه الأرض والشعب والمستقبل. لكن هذا الولاء – الذي يُفترض أن يكون خالصًا للوطن، لا تشوبه شائبة – كثيرًا ما يتعرض للتشويش، بل وللاختطاف، من طرف آفتين تقرعان جرس الإنذار في المشهد الوطني: المحسوبية والتخندق السياسي.
بين الانتماء الحق والانتماء المصطنع
الولاء للوطن لا يُقاس بالشعارات ولا يُختصر في رفع العلم أو ترديد النشيد الوطني، بل يتجلى في السلوك، في الإخلاص في العمل، في حماية المال العام، وفي الوقوف مع الوطن في الرخاء والشدة. غير أن بعض النخب – السياسية أو الإدارية – باتت تمارس نوعًا من "الولاء الانتقائي"، حيث يُقدَّم الحزب على الوطن، ويُرفَّع ابن القبيلة على حساب الكفاءة، ويُفضل "الولاء للأشخاص" على الولاء للمؤسسات.
المحسوبية: العدو الصامت للعدالة والإنصاف
المحسوبية، بما تحمله من تجاوز لمبدأ تكافؤ الفرص، حين تتحول المناصب إلى غنائم، والمصالح إلى مزارع شخصية، يُصاب الجيل الصاعد بالإحباط، ويبدأ نزيف الثقة في الدولة. فكيف يمكن لشاب طموح أن يخلص في ولائه لوطن لا يشعر فيه بأنه مواطن متساوٍ مع غيره؟
التخندق السياسي: انقسام أم انتحار وطني؟
السياسة – في أصلها – أداة لبناء الوطن، لكن حين تتحول إلى خنادق وتيارات متصارعة، يكون الوطن هو الضحية الأولى. التخندق السياسي يعمق الانقسام، ويحول الرأي المخالف إلى خيانة، ويزرع الشك بين أبناء الوطن الواحد. وحين يُتهم الوطني المخلص لمجرد اختلافه السياسي، فاعلم أن بوصلة الانتماء قد اختلت.
أبعاد خطيرة على النسيج الوطني
إن استشراء المحسوبية والتخندق السياسي يؤدي إلى:
تفكك الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة.
تراجع الإحساس بالعدالة والإنصاف.
نزيف الكفاءات إلى الخارج أو إلى الهامش.
ضعف روح المبادرة لدى الأجيال الجديدة، التي تفقد الإيمان بالإصلاح من الداخل.
نحو استعادة الولاء الحقيقي
المرحلة تقتضي مراجعة جماعية عميقة تعيد الاعتبار لمفهوم المواطنة الصادقة:
1. إصلاح مؤسسي حقيقي يقوم على الشفافية وتكافؤ الفرص.
2. نبذ القبلية والمحسوبية في التعيين والتسيير.
3. تكريس ثقافة الحوار السياسي بدل الإقصاء والتخوين.
4. دعم التعليم والتكوين باعتبارهما ركيزتين لبناء وعي وطني واعٍ.
5. إبراز القدوات الوطنية التي جسدت الولاء من خلال العمل لا الشعارات.
الولاء للوطن ليس ورقة تُلوَّح بها في المنابر، ولا جملة تُحفظ في المناهج، بل هو فعل يومي، يبدأ من احترام القانون وينتهي ببذل الروح فداءً للأرض. الوطن يحتاج أبناءه جميعًا، لا المتحزبين لذواتهم، ولا المتخندقين في مواقفهم، بل المؤمنين بأن موريتانيا – بكل فسيفسائها – تستحق أكثر من الولاء... تستحق الحب والعمل والتضحية.
الوطن فوق الجميع، ومن أجله يجب أن نتجرد من كل ولاء جزئي، لأن الولاء الذي لا يمر عبر الوطن... ولاء ناقص.
محمد ولد عمار