في مسار الشعوب، تلعب النخبة دورًا حاسمًا في توجيه دفة التنمية، ليس فقط من حيث السياسات والقرارات، بل أيضًا من حيث الرمزية التي تجسدها هذه النخبة في الوعي الجمعي للأمم. هذا الدور التاريخي كان محل نظر وتحليل منذ قرون، ولعل أبرز من سبر أغواره كان المفكر الإسلامي ابن خلدون، الذي رأى أن قيام الدول وازدهارها وانهيارها يرتبط ارتباطًا وثيقًا بطبيعة نخبتها الحاكمة. وفي العصر الحديث، أعاد التاريخ طرح الأسئلة ذاتها ولكن بلغة جديدة، كما تجلّى في سؤال صحفي أمريكي للرئيس الأسبق رونالد ريغن: "كيف تقود أكبر دولة في العالم وأنت بطل أفلام سينمائية؟"، فأجاب ببساطة ودهاء: "أنا لا أقود أكبر دولة في العالم بكوني ممثلًا، بل بإختيار المعاونيين"البطانة"".
ابن خلدون، في مقدمته الشهيرة، لم يرَ النخبة مجرد طبقة حاكمة، بل أداة محورية في قيام العمران أو خرابه. فهو يؤمن أن العصبية — بما تمثله من تماسك اجتماعي وقوة دفع داخلية — هي التي تُؤهل فئة من الناس لبلوغ الحكم. لكن حين تفقد هذه العصبية بريقها، وتغرق النخبة في الترف والانفصال عن المجتمع، يبدأ مسار الانحدار. إن النخبة في فكر ابن خلدون ليست فقط من تملك السلطة، بل من تملك الرؤية والمسؤولية عن ترجمة طموحات الأمة إلى واقع ملموس.
في العالم المعاصر، تغيرت بنية النخبة، فلم تعد فقط من يحملون الألقاب الأكاديمية أو ينحدرون من أسر أرستقراطية. ريغن، بطل هوليودي سابق، أصبح رئيسًا لأقوى دولة في العالم. ورغم السخرية التي قابلت ترشحه، أثبت أن القيادة ليست حكرًا على مسار تقليدي جامد، بل على من يفهم الناس، ويجيد التواصل، ويملك خيالًا سياسيًا قادرًا على توجيه الرأي العام.
تصريحه للصحفي الأمريكي كان أكثر من مجرد رد دبلوماسي، كان إعلانًا أن الزعامة — في عالم الصورة والاتصال الجماهيري — تتطلب مهارة في "لعب الدور" لا بمعناه التمثيلي السطحي، بل بقدرته على تجسيد تطلعات الأمة وإدارة المشهد الوطني والدولي بحنكة وذكاء رمزي.
إذا كانت النخبة في فكر ابن خلدون هي من تمتلك العصبية والرؤية، وفي تجربة ريغن هي من تفهم الدور وتملك الكاريزما والتأثير، فإن التطوير لا يكون إلا حين تتطابق النخبة مع متطلبات المرحلة. التنمية لا تحتاج فقط لمن يملك السلطة، بل لمن يفهم التحديات، ويجيد تكييف أدوات العصر مع حاجات الناس.
في هذا السياق، يظهر التناقض الصارخ في العديد من البلدان النامية، حيث تعاني النخب من انفصال عن الواقع أو اغتراب عن الشعب. فمنهم من يتمسك بالنموذج الخلدوني دون تجديد، ومنهم من يحاول تقليد ريغن دون وعي بالاختلاف الجذري في السياق.
الإعلام، هو أحد أكبر أدوات النفوذ في العصر الحديث. ومن يملك القدرة على توجيهه، يمتلك القدرة على صناعة النخبة، أو على الأقل "شرعنتها" في نظر الجماهير. ولذلك فإن من يفهم الإعلام لا يركبه فقط، بل يصنع من خلاله صورة تطويرية، يقود بها وعي الشعب، ويخلق إجماعًا وطنيًا.
تتجلى صورة النخبة كمرآة لتطور الشعوب. فحين تكون النخبة مسؤولة، واعية، منسجمة مع حاجات الأمة، تصبح رافعة للمشروع التنموي. أما حين تنفصل عن المجتمع أو تسكن قوالب تاريخية جامدة أو صور استعراضية جوفاء، فإنها تتحول إلى عبء على مشروع الأمة.
إن النخبة ليست بمن تضعهم الصدفة في مواقع القرار، بل بمن يمتلكون الوعي التاريخي، والخطاب القادر على إقناع، والقدرة على فهم أدوارهم في مسرح السياسة. وفي النهاية، فالتنمية لا تنبع من خطب رنانة ولا من مسلسلات تاريخية، بل من نخبة فاعلة، تقرأ الماضي بعيون صادقة ، وتخاطب الحاضر بلغة إعلام مهني، وتصنع المستقبل بإرادة وطنية صلبة.
اسعد الله اوقاتكم بكل خير
محمد ولد عمار