حين يتفاخر أبناء الوطن بالإنجاز، فإنهم لا يتحدثون عن منجز عابر، ولا يرفعون شعارات جوفاء، بل يعبرون عن شعور أصيل يسكن أعماقهم: شعور بالانتماء، بالمسؤولية، وبالاعتزاز بما تحقق على أرضهم التي لا يملكون سواها. فالوطن ليس مجرد بقعة على الخريطة، بل هو المعنى العميق للهوية، وهو الحضن الأول والأخير، وهو الحقيقة التي لا بديل عنها مهما تقلبت الأيام وتبدلت الظروف.
الوطن، حين يكون هو الهاجس الأول، تغدو الإنجازات الفردية جزءًا من لوحة جماعية تنبض بالحب والتضحية، وتصبح النجاحات الصغيرة لبنات تُضاف إلى بناء كبير اسمه "نحن"، لا "أنا". وفي كل مرة يرتقي فيها الوطن، يرتقي معه كل أبنائه. ذلك أن مَن يجعل الوطن شاغله الدائم، يعيش له، ويعمل من أجله، ويذوب فيه.
الانتماء للوطن ليس حالة شعورية عابرة، بل هو التزام أخلاقي وسلوكي دائم. هو أن يشعر الإنسان بأنه قطعة من هذا التراب، مسؤول عن حاضره، ومطالب ببناء مستقبله. الانتماء يعني أن نُحب الوطن حتى حين يتألم، وأن نتمسك به حتى حين يخذلنا، وأن ننهض به حين يتعثر. هو أن نكون أوفياء في القول والعمل، لا نبيع القيم مقابل المكاسب، ولا نهادن الفساد من أجل راحة زائفة. فحيثما يكون الانتماء الصادق، يكون الولاء الحق، وتُبنى الأوطان على أساس متين من الثقة والعطاء.
لا وطن بديلاً، ولا عوض عن هذا التراب الذي حمل خطانا الأولى، وسَمع ضحكاتنا وبكاءنا، واحتضن أحلامنا وخيباتنا، وأمدّنا بالأمان حين ضاقت بنا الدروب. من يفتش عن وطن بديل، إنما يبحث عن ظل لا دفء فيه، وعن مكان لا روح تسكنه. فالوطن الحقيقي لا يُصنع، بل يُولد مع الإنسان، وينمو معه، ويهرم معه، ويُدفن معه.
كم نحتاج اليوم إلى أن نغرس في وعينا الجمعي هذه الحقيقة البسيطة والعميقة: لا وطن لنا سواه. هذا ما يجب أن يربّى عليه الجيل، أن الوطن ليس مجرد مصلحة أو منصب أو لحظة انتصار، بل هو قدر ومسؤولية، وهوية لا يجوز التنكر لها ولا المساومة عليها. ففي أوقات الأزمات، لا نركن إلى الفرار، بل نلتف حول وطننا، نحميه بما نستطيع، بالكلمة، بالفعل، بالصبر، بالنية الصادقة.
أبناء الوطن حين يجعلون الوطن في قلوبهم لا على ألسنتهم، وحين يحملونه في عقولهم لا في صورهم، يدركون أن لا قيمة لنجاح في منفى، ولا لثروة في غربة، ولا لصوت مرتفع خارج حدود الأرض التي أنبتتهم. هم يعرفون أن الوطن، مهما اعترته العثرات، ومهما أصابه من تعب، يظل بيتهم الأول، ومآلهم الأخير.
فلتكن هذه اللحظة فرصةً لمراجعة الذات: ماذا قدّم كلٌّ منّا لوطنه؟ وكيف نُحصّن وحدتنا ونقوّي نسيجنا الوطني أمام الرياح القادمة من كل اتجاه؟ وهل نُربي أبناءنا على أن الوطن لا يُستبدل، ولا يُعرض في سوق المصالح، ولا يُهجر إلا مكرهين، بل يُعانق حتى في لحظات الألم؟
لنجعل من حب الوطن سلوكًا يوميًا، لا ذكرى تُستحضر عند اللزوم. ولنحمله فينا لا كحمولة ثقيلة، بل كرسالة نور. لأننا حين ندرك أنه لا وطن لنا سواه، سنصونه بأرواحنا، ونبنيه بأيدينا، ونغرس في ترابه قيمنا، ونقف في وجه كل ما يُهدده، بكل شجاعة ووعي.
الوطن… هو البداية وهو المنتهى، هو الحاضر والمستقبل، وهو الحقيقة التي لا تقبل بديلاً.