يمثل نزاع الصحراء الغربية واحدًا من أطول وأعقد النزاعات في شمال إفريقيا، متخطيًا نصف قرن من الزمن بين أطراف رئيسية هي المغرب، جبهة البوليساريو، الجزائر، وموريتانيا كطرف مُراقب. وعلى الرغم من تعدد المبادرات الأممية والإقليمية، بقي النزاع مفتوحًا على جميع الاحتمالات. غير أن كلمة العاهل المغربي الملك محمد السادس بمناسبة عيد العرش 2025، والتي دعا فيها إلى حوار مباشر وصريح مع الجزائر، أضاء بارقة أمل جديدة في مسار البحث عن حل سياسي دائم، يرضي مختلف الأطراف ويحافظ على استقرار المنطقة المغاربية.
أولًا: مضمون كلمة الملك محمد السادس ومراميه السياسية
في خطابه، وجّه العاهل المغربي نداءً صريحًا إلى الجزائر لـ"فتح صفحة جديدة من الحوار الجاد" على أساس "حسن الجوار" و"رابطة المصير المشترك"، داعيًا إلى تجاوز حالة القطيعة من أجل الحفاظ على الأمن الإقليمي المغاربي. كما جدّد تمسك المغرب بمقترح الحكم الذاتي كحل وحيد وواقعي لإنهاء النزاع.
هذا الخطاب يحمل أبعادًا سياسية ودبلوماسية مهمة:
إعادة تموضع المغرب كفاعل منفتح على الحوار.
الضغط على الجزائر أمام المجتمع الدولي لتبرير موقفها الرافض للحوار.
استثمار الظرف الإقليمي والدولي لحشد دعم متجدد للمقترح المغربي.
ثانيًا: ديناميكيات النزاع وتوازن القوى الإقليمي
1. المغرب:
يواصل المغرب تعزيز تواجده في الأقاليم الجنوبية من خلال مشاريع تنموية واسعة.
يحظى بدعم قوي من عدد من الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة وفرنسا، إلى جانب الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء خلال إدارة ترامب.
يعتمد على طرح الحكم الذاتي باعتباره "الحد الأقصى الممكن" للتسوية.
2. جبهة البوليساريو:
تواصل تمسكها بخيار "الاستفتاء" وتصف الحكم الذاتي بأنه "تنازل عن حق تقرير المصير".
استأنفت العمل العسكري ضد المغرب منذ أواخر 2020 بعد أحداث الكركرات.
تواجه تحديات داخلية مرتبطة بتآكل الدعم الشعبي وتضاؤل الموارد.
3. الجزائر:
تعتبر النزاع "قضية تصفية استعمار" وتدعم البوليساريو دبلوماسيًا وعسكريًا.
علاقاتها مع المغرب تشهد توترًا غير مسبوق منذ 2021.
تتحرك في المحافل الدولية لدعم مطلب الاستفتاء ومواجهة المقترح المغربي.
4. موريتانيا:
تلتزم الحياد الرسمي، مع حرصها على عدم التصعيد، نظرًا لتأثيرات النزاع المباشرة على أمنها واقتصادها و تصر على الحل المرضي لجميع الأطراف.
يمكن أن تلعب دور الوسيط "الهادئ" بالنظر إلى مقبوليتها لدى الطرفين.
ثالثًا: فرص الحل في ضوء المستجدات
1. الدعوة للحوار المباشر:
تشكل دعوة العاهل المغربي مدخلًا واقعيًا لتطبيع العلاقات الثنائية مع الجزائر، مما قد يفتح لاحقًا أفقًا لمسار تفاوضي أوسع يشمل الملف الصحراوي.
2. المقترح المغربي للحكم الذاتي:
يحظى بقبول أممي متزايد، ويعتبره عدد من الفاعلين "حلًا عمليًا"، شرط توفر ضمانات حقوقية وسياسية كافية.
يمكن تطويره ليتضمن آليات إشراف دولية أو مشاركة رمزية للبوليساريو.
3. دور الأمم المتحدة:
المبعوث الأممي ستافان دي ميستورا لا يزال يسعى لجمع الأطراف على طاولة مفاوضات.
هناك فرصة لتحريك الجمود الدبلوماسي بدعم من الدول الكبرى، خاصة في ظل تغير أولوياتها الأمنية (الطاقة، الإرهاب، الهجرة).
4. المتغيرات الإقليمية:
الأوضاع الهشة في منطقة الساحل وتهديد الجماعات المتطرفة تفرض منطقًا جديدًا يقوم على التعاون الأمني بدل التصعيد السياسي.
تغيّر التحالفات الدولية يدفع القوى الإقليمية لمراجعة خياراتها الإستراتيجية.
رابعًا: السيناريوهات المحتملة
1. سيناريو التفاوض المشروط:
الدخول في مفاوضات غير مباشرة بين المغرب والبوليساريو برعاية أممية، مع قبول مبدئي لمقترح الحكم الذاتي كأساس للنقاش.
2. سيناريو الجمود:
استمرار الوضع على ما هو عليه: لا حرب شاملة ولا سلام حقيقي، مما يجهد السكان الصحراويين ويستنزف موارد الدول المعنية.
3. سيناريو التصعيد:
اندلاع مواجهات عسكرية محدودة في الصحراء قد تتوسع حال تدخل أطراف إقليمية، مما يهدد أمن المنطقة.
---
خامسًا: تحديات الحل
غياب الثقة بين المغرب والجزائر.
الجمود الأممي وضعف الضغوط الدولية على الأطراف.
تحول القضية إلى ورقة في الصراع الجيوسياسي بين القوى الكبرى.
الاحتقان الشعبي داخل مخيمات تندوف بسبب طول أمد الأزمة.
إن كلمة الملك محمد السادس تضع الكرة مجددًا في ملعب الجزائر والبوليساريو، وهي محاولة ذكية لكسر الجمود السياسي في ملف الصحراء الغربية. وبينما لا تبدو الحلول قريبة في الأفق، فإن فُرص التسوية تظل قائمة إذا ما توفرت الإرادة السياسية، وانخرطت الأطراف بروح واقعية في مسار تفاوضي جديد، يتجاوز الحسابات التاريخية، ويضع في الاعتبار مصلحة شعوب المنطقة واستقرارها. فالصحراء، في نهاية المطاف، ليست فقط قضية أرض، بل امتحان لقدرة شمال إفريقيا على التعايش والتكامل بدل التنازع والانقسام.