في خضم التقلبات المتسارعة التي يعيشها الساحل الإفريقي، تبدو مالي اليوم الشرارة الأكثر توهجًا في مشهد إقليمي معقد. فمنها تبدأ دوائر النزاع، وعلى أرضها تُعاد صياغة توازنات القوى التي سرعان ما تمتد ارتداداتها إلى دول الجوار، من النيجر وبوركينا فاسو وصولًا إلى موريتانيا وتشاد.
لقد تحولت مالي إلى قلب المعادلة الأمنية في الساحل. فالجماعات المسلحة مثل حركة نصرة الإسلام والمسلمين، وجماعة ماسينا، والحركات الأزوادية، استثمرت في هشاشة الدولة وضعف مؤسساتها لتعزيز حضورها على الأرض. ومع انتشار العمليات المسلحة، اصبح التحدي الأكبر قدرة باماكو على تعزيز سيطرتها على أراضٍ شاسعة تغيب عنها سلطة الدولة، وتتحول إلى ملاذات للتهريب والجريمة المنظمة.
الانقلابات العسكرية المتكررة زادت من هشاشة المشهد. فالتحول السياسي لم يكن مجرد انتقال في الحكم، بل انعكس مباشرةً على المعادلة الأمنية، حيث تراجعت الشراكة التقليدية مع فرنسا، وصعدت روسيا بقوات فاغنر، فيما تحاول أطراف أخرى كتركيا والصين والولايات المتحدة تثبيت وجودها في هذا الممر الاستراتيجي. انسحاب قوة عالمية أو دخول أخرى إلى الساحة لم يعد مجرد حدث عابر، بل خطوة تعيد رسم خريطة النفوذ في كامل المنطقة.
هذا التغيير في معادلات التحالفات جعل من كل خطوة عسكرية ذات تأثير إقليمي واسع. فسيطرة جماعة مسلحة على مدينة في مالي ليست شأناً محليًا، بل إن صداها يصل إلى نيامي وواغادوغو ونواكشوط، حيث تشعر الحكومات بأن النار تقترب من حدودها. في غياب تنسيق فعّال بين دول الساحل، تحولت الحدود إلى ثغرات مفتوحة، وأصبح الأمن القومي لأي دولة مرهونًا بأمن جارتها.
وهكذا، فإن صراع النفوذ في الساحل يبدأ فعلاً من مالي، لكنه لا ينتهي عندها. فالمنطقة برمتها أصبحت رقعة مفتوحة لتنافس دولي محتدم، بينما يبقى البعد الأمني هو المحدد الأول لمسارها، والشرط الضروري لأي مشروع سياسي أو اقتصادي في المستقبل.