في موريتانيا، يبدو أن حرية التعبير تحولت إلى سوق مفتوحة بلا بوابة: الكل يتحدث، الكل يصرخ، الكل يوزع الاتهامات ويمنح صكوك الوطنية والخيانة كما يشاء. لا دستور يردع، ولا قانون يضبط، بل مجرد فوضى صاخبة يغطيها شعار "حرية بلا حدود".
الغريب أن المثقف و الصحفي و قواد الرأي و الفاعلين ،الذي يُفترض بهم أن يكونوا حارس الحقيقة، صاروا أول من يعبثون بها. يخرجون علينا في منابر عامة ليتحدثوا بخطابات مناقضة للدستور والقوانين، وكأن القوانين كتبت للآخرين فقط. أما اعضاء البرلمان، الذين يجلسون تحت قبة البرلمان حيث تُصاغ التشريعات، فلا يترددون في إطلاق تصريحات تنسف أسس الدستور الذي أقسموا على احترامه. إنها مفارقة تُثير السخرية: حماة النصوص هم أول من يحرقها!
نعيش اليوم وضعاً عجيباً: صحافة بلا مسؤولية، وسياسة بلا بوصلة، ومجتمع بلا معايير. يتوهم الناس أن هذا ضجيج حرية، بينما هو في الحقيقة حرية الزيف والتناقض. كلام مباح يملأ الفضاء، لكنه لا ينتج وعياً ولا يحمي حقاً. بل يخلق جواً خانقاً من الشعارات المتناقضة، حيث يصبح العبث "رأياً"، والفوضى "تحليلاً"، والخرق "شجاعة".
أخطر ما في الأمر أن هذه الفوضى تقتل النقاش الحقيقي. بدل أن نسائل السياسات العمومية، نغرق في معارك كلامية فارغة. وبدل أن نبني ثقافة حرية مسؤولة، نكرس ثقافة "الصوت العالي" و"الكلام المباح" بلا حساب. وهكذا يتحول المشهد العام إلى سيرك كبير: مثقفون و قواد الرأي و صحفيون يتبارون في مخالفة النصوص، نواب يتبارون في خرق الدستور، والجمهور يصفق للفرجة، بينما الدولة تتآكل في الخلفية بصمت.
إن حرية التعبير ليست أن يتحدث كل واحد بما يخالف القانون ثم يختبئ وراء شعار "الحرية". الحرية الحقيقية هي أن تكون الكلمة مسؤولية، وأن يكون الرأي خادماً للحقيقة لا قاتلاً لها. أما ما نعيشه اليوم ، فهو أقرب إلى "حرية فوضى" جعلت من الدستور مجرد ورق، ومن القانون مجرد حبر باهت، ومن الكلمة مجرد طلقة في الهواء.