من التناقض إلى التناقض، نمشي في طرقات السياسة كما لو كنا في متاهةٍ من مرايا مشروخة، كل مرآة تعكس وجهًا بلا ملامح، وكل ظلّ يطارد ظلًا آخر. شباب هذا الوطن، حين يثقلهم الانتظار وتنهشهم البطالة، يجدون أنفسهم أمام باب السياسة، يطرقونه بأصابع مرتعشة، لا حبًّا في سلطة ولا ولعًا بالجدل، بل لأن الخبز صار أسبق من الحلم، ولأن الكرامة لم تعد تجد مكانًا إلا في دهاليز النفوذ.
غير أن المشهد اليوم أكثر غرابة، فـ صنّاع المحتوى صاروا رسامي هذه الواجهة الجديدة. لا يقدّمون السياسي في ملامح فكره أو مواقفه، بل يرسمونه في صورةٍ عابرة: يربّت على كتف شيخٍ في جنازة، يبتسم لطفلٍ في عرس، يحتسي الشاي على مصطبةٍ ترابية. هكذا يتحوّل السياسي إلى قريبٍ منا، لا لأنه قدّم لنا ما نحتاج، بل لأنه مرّ في لحظةٍ من لحظاتنا اليومية، وتحوّل ذلك العبور إلى حكايةٍ كاملة.
من التناقض إلى التناقض، تضيع الأفكار في زحمة الصور، وتُدفن البرامج تحت ركام المشاهد القصيرة. نلهث وراء اللقطة التي تُبهج الروح لحظة، بينما تبقى الجروح الكبرى بلا دواء. السياسي يلمع وجهه على الشاشة، وصانع المحتوى يزيّن صورته بالكلمات والموسيقى، والجمهور يصفّق لمشهدٍ عابر كأنه نصر مؤزر. لكن الوطن، في عمقه، يظل يبحث عن برنامج لا عن صورة، عن صدقٍ لا عن تمثيل.
ويبقى السؤال يتيماً في العيون: إلى متى نعيش أسرى هذا المسرح؟ إلى متى نهتف للوهم ونغض الطرف عن الحقيقة؟ السياسة ليست مقطعًا عابرًا ولا صورة تُغرقنا بالتصفيق، بل هي مسؤولية كبرى، هي حلم جماعي لا يكتمل إلا حين يكون الفعل أصدق من الكاميرا، والجوهر أنقى من الواجهة.