قلب العاصفة/ محمد ولد عمار

في منطقة تمتد على اتساع الرمل والعراء، حيث يلتقي الجفاف بالفقر، وتتصادم الجغرافيا بالتاريخ، تقف منطقة الساحل الإفريقي اليوم في قلب العاصفة. ليس الأمر صراعًا محدودًا بحدود الدول أو القبائل، بل هو مشهد مكتمل الأركان لصراع دولي جديد، تدور رحاه على الرمال، ويُكتب بالحبر والمخالب معًا.
ما يجري في الساحل ليس حدثًا عابرًا، بل هو انعكاس لتحولات عميقة في النظام الدولي، حيث تعود القوى الكبرى لتتقاسم مناطق النفوذ تحت شعارات جديدة. فالإرهاب، الذي رُفع شعارًا للتدخل العسكري، لم يكن سوى الستار الذي تخفي خلفه المصالح الكبرى أطماعها القديمة المتجددة. ومنطقة الساحل بما تحمله من ثروات معدنية، وموقع استراتيجي يربط شمال إفريقيا بجنوبها، تحولت إلى مسرح مفتوح تتزاحم فيه القوى بلبوس مختلف ولكن بنوايا متشابهة.

الجغرافيا هنا ليست محايدة، فهي قاسية بطبيعتها، تفرض على أهلها صراعًا دائمًا مع البيئة قبل أن يواجهوا صراعات السياسة. ومع ذلك، فإن هذه البقعة التي  تبدو منسيًة في أطراف القارة، تختزن في باطنها ما يجعل منها مطمعًا لكل الطامحين في رسم خرائط النفوذ الجديدة. فمن يمتلك الساحل، يمتلك بوابة إلى الصحراء وإلى المحيط، ويمتلك خيطًا دقيقًا يصل بين العالمين العربي والإفريقي.

تعددت القوى وتناقضت الأجندات. فرنسا التي كانت تحكم هذه المنطقة باسم الوصاية الحضارية، وجدت نفسها اليوم مطاردة من وعي جديد بدأ يتشكل في المجتمعات الإفريقية، وبدأ يسائلها: ماذا أنجزت خمسون سنة من الوجود الفرنسي سوى الفقر والتبعية؟ وهكذا تراجعت باريس تحت ضغط الرفض الشعبي والعجز الميداني. روسيا بدورها دخلت إلى المشهد بذكاء، ترفع راية التحرر من الهيمنة الغربية، وتقدم نفسها كحليف يحترم السيادة الإفريقية، لكنها في النهاية تطارد مصالحها، وتحجز مكانها في عالم متعدد الأقطاب. أما الصين، فهي القوة الصامتة التي تتقدم بخطى ثابتة، تبني الطرق والموانئ، وتفتح الأسواق دون أن تُشهر سلاحًا، لتصبح اللاعب الأكثر نفوذًا اقتصاديًا دون ضجيج.

أما الأنظمة المحلية، فهي الحلقة الأضعف في هذه السلسلة. أنظمة تتأرجح بين الشرعية المفقودة والارتهان للخارج، محكومة بمراكز قوى داخلية وصراعات إثنية وتاريخ من التهميش والفساد. هذه الدول التي ورثت حدودًا رسمها الاستعمار لم تنجح في بناء مشروع وطني جامع، فبقي الولاء فيها للقبيلة والطائفة والمنطقة، قبل أن يكون للوطن. ومن هنا، تجد الجماعات المسلحة أرضًا خصبة، تتغذى على الغبن وتعيش على الفوضى، فتتحول من مجموعات محلية إلى جيوش ظلّ تفرض منطقها على الفراغ.

الساحل اليوم يقف عند لحظة حاسمة، تتجاذبه قوتان: قوة الوعي المتنامي لدى الشعوب الإفريقية الباحثة عن سيادتها الحقيقية، وقوة المصالح الخارجية التي لا تزال ترى في هذه المنطقة مجالًا مفتوحًا للهيمنة والسيطرة. إن ما يجري ليس مجرد حرب على الإرهاب، بل هو صراع على من يملك القرار في إفريقيا، ومن يرسم مستقبلها في خريطة العالم الجديد.

إن المشكلة ليست في من يتدخل، بل في من يسمح بالتدخل. فالأمة التي لا تمتلك مشروعها الوطني تصبح ساحة مفتوحة لكل الطامعين. والساحل، بكل ما فيه من ثراء طبيعي وفقْر إنساني، لن ينهض ما لم يُستعاد الوعي الجمعي، وما لم تُبنَ الدولة على أسس من العدالة والمواطنة لا على منطق الغنيمة.

المآلات مفتوحة على كل الاحتمالات. يمكن للساحل أن ينزلق أكثر نحو الفوضى إذا استمر عجز الدولة واستمرار ارتهان القرار السياسي، ويمكنه أن يتحول إلى رافعة إفريقية جديدة إذا نجحت حركات التحرر المحلية في تحويل الغضب الشعبي إلى مشروع بناء. فالرهان في النهاية ليس على البنادق ولا على التدخلات الخارجية، بل على الوعي. الوعي هو السلاح الحقيقي، وهو الذي يجعل من الرمال وطنًا ومن الأزمة فرصة.

الصراع في الساحل هو في جوهره صراع على الوعي قبل أن يكون صراعًا على الأرض. ومن يدرك هذه الحقيقة، يدرك أن الهزيمة ليست قدرًا، وأن الاستقلال ليس علمًا يُرفع، بل وعيًا يُستعاد. في نهاية المطاف، الرمال لا تهزم بالسلاح، بل بالفكرة، والفكرة حين تشتعل في أذهان الناس، تُصبح أقوى من الجيوش.