حين صمتت العقول / محمد ولد عمار

في لحظةٍ كان يُفترض أن تكون فارقة في تاريخنا الحديث، غابت النخب. لم تغب بالجسد، ولكن غابت بالمعنى… غابت بالروح، وبالرسالة، وبالقدرة على أن تقول كلمة. كان يُفترض أن تكون البوصلة، فإذا بها تُصبح جزءًا من التيه.

أين اليمينيون الذين بنوا خطابهم على الثوابت، فإذا بهم يساومون عليها باسم “الواقعية السياسية”؟ وأين اليساريون الذين رفعوا راية الفقراء، فإذا بهم ينعمون بخيرات السلطة التي طالما حاربوها؟ وأين الوسطيون الذين وعدوا بالعقل والاتزان، فإذا بهم يسقطون في حسابات الموازنة بين الولاء والمصلحة؟ أما التكنوقراط، أولئك الذين بشّروا بعصر الكفاءة والعقلانية، فقد باعوا عقولهم في مزاد السياسة، وسكتوا عن الخطأ حين صار الكلام يكلّف منصبًا.

انكسرت القواعد، وضاع المبدأ، وصار الضمير مجرد بند في لائحة تفاوض. تاهت الاتجاهات حتى لم نعد نفرّق بين اليمين واليسار، ولا بين الوطني والانتهازي. كلّهم اجتمعوا تحت راية واحدة: “النجاة الفردية”.

الموضوعية انتحرت يوم صار الإعلام بوقًا، والنقد تهمة، والفكر ترفًا. أما الحزبية ففقدت معناها، إذ تحوّلت من مدرسةٍ في المبادئ إلى دكّانٍ في المصالح. والتخندق السياسي صار مقامًا لمن يطلب القرب، لا لمن يطلب الإصلاح. الكل يتحدث باسم الوطن، ولا أحد يعمل لأجله.

التحكم لم يعد في يد أصحاب الكفاءة، بل في يد من يجيد فنّ الصمت في حضرة السلطة، ومن يُتقن الابتسام وقت العواصف. القرارات تصاغ في الظلال، والضمير العام يختنق بين جدران الصمت.

أين النخبة التي كانت تصنع الوعي؟ التي كانت تقود لا تُقاد، وتفكر لا تُفكَّر لها؟ اليوم صارت تُصفّق حين ينبغي أن تعارض، وتُبرر حين يجب أن تفضح، وتساير حين يستوجب المقام أن تقول “كفى”.

إن أخطر ما أصاب مجتمعاتنا ليس الفساد في المال أو في الأخطاء التسييرية، بل الفساد في الفكر، حين خافت العقول من المواجهة، وفضّلت النجاة على الكرامة. وحين تتخلى النخبة عن دورها، يُفتح الباب واسعًا أمام العبث، ويتحوّل الوطن إلى ساحة مفتوحة.

لقد صار الصمت أداة حكم، والمجاملة سياسة، والرمادية عقيدة. والنتيجة أننا نعيش زمنًا لا يُقاس فيه المرء بما يملك من فكر، بل بما يملك من علاقات.

أين النخب؟
سؤال لا ينتظر جوابًا، لأن الجواب نفسه قد اختنق في حلق النخبة. لكنها ستعود  حين تدرك أن الفكر ليس مهنة، بل رسالة؛ وأن الموقف ليس رفاهية، بل واجب؛ وأن الصمت في لحظة الخطر خيانة كبرى.

سيظل التاريخ يسألهم:
أين كنتم عندما احتاج الوطن صوتكم؟
وستظل الإجابة المؤجلة تلاحقهم… بصمتٍ أثقل من الكلام.