في موريتانيا اليوم، تتسع هوّة بين من يرى الحرية مطلقة بلا قيد، ومن يعتقد أن مجرد رفع الصوت هو فعل بطولة. والحقيقة أن الدولة لا تُبنى بالصراخ، ولا تُصان بالاتهامات، ولا تتقدم عبر الخطابات التي تُغذّي الصراع وتثير الغرائز. إنّ الدستور ليس نصًا للزينة، بل هو صمام أمان، وكل خرقٍ له هو خرقٌ لأساس البيت المشترك. ومن يطالب بالحرية خارج القانون كمن يطالب ببحرٍ بلا ضفاف، وسفينة بلا ربان.
حرية التعبير قوةٌ عظيمة، لكنها تصبح خنجرًا حين تُستخدم لتكسير الثقة في المؤسسات، أو لتقويض العقد الاجتماعي، أو لجرّ المجتمع إلى مربعات الانقسام القبلي والسياسي والطائفي. الخطوط الحمراء ليست خوفًا من الحقيقة، بل حماية للحقيقة من التشويه، وحماية للوطن من الابتلاع داخل صراعات لا تنتهي. فلا يمكن السماح لمن يلبس رداء الناشط أو المثقف أن يرفع شعارات تُهدد وحدة الدولة، أو تُشكك في شرعية المؤسسات بشكل عبثي، أو يحوّل الفضاء العام إلى ساحة تصفية حسابات.
موريتانيا اليوم بحاجة إلى خطاب يعيد ترتيب الأولويات، فالبلد لا يحتمل مزيدًا من الصخب. الأولويات ليست في المزايدات، ولا في الادعاءات الثورية، ولا في خلق عدوّ وهمي داخل كل مؤسسة. الأولويات في بناء مدرسة قوية، وصحة محترمة، واقتصاد منتج، وإدارة شفافة، وإعلام مسؤول يعرف أن دوره ليس تأجيج النار بل إضاءة الطريق.
التنمية لا تأتي في بيئة يعلو فيها الضجيج على الفعل، ولا في مجتمع تُهيمن عليه سرديات الكراهية والتشكيك، ولا في دولة تُصبح فيها الحرية مطيّة لخطابات خارجة عن القانون. إن حرية التعبير في جوهرها ليست حقًا فرديًا فحسب، بل هي مسؤولية جماعية، يتم ممارستها في إطار الدستور، ومن داخل القانون، وتحت سقف العقد الاجتماعي الذي ارتضاه الجميع.
أما ترك الحبل على الغارب، وفتح أبواب الفضاء العام لكل من يريد التحدث باسم “الشعب” أو “الأمة” أو “الشرعية” وفق أجندته الضيقة، فهو الطريق الأقصر نحو الفوضى. لا يمكن لدولة أن تنهض بينما كل فاعل يسعى لفرض رؤيته وكأنها الحقيقة المطلقة، ولا يمكن لوطن أن يتقدم بينما أقلية صاخبة تُريد أن تُملي على الأغلبية نمط تفكيرها وسلوكها.
لهذا، فإن من واجب الدولة والمجتمع معًا أن يُعيدوا ضبط حدود التعبير، ليس قمعًا، بل تنظيمًا؛ ليس تضييقًا، بل حماية؛ ليس خنقًا للآراء، بل حفظًا للحق العام من أن يُختطف لصالح مشاريع صغيرة، أو حسابات حزبية، أو خطابات تبث اليأس والإحباط.
موريتانيا اليوم تقف أمام فرصة تاريخية لإعادة تشكيل مستقبلها، لكن ذلك لن يتم إلا إذا اتفقنا على أن الحرية ليست ضد الدولة، وأن النقد ليس خصومة، وأن التعبير ليس سلاحًا لتمييع الثوابت وتفكيك الدولة. الأولوية هي بناء وطن قويّ، دولة عادلة، مجتمع متماسك، تنمية مستدامة، وإعلام يعي مسؤوليته الأخلاقية قبل المهنية.
عند هذه النقطة، يجب وضع النقاط على الحروف:
ما يُقال يجب أن يبقى ضمن ما يسمح به الدستور.
وما يُكتب يجب أن يلتزم بالقانون.
وما يُعلن يجب أن يُعزّز العقد الاجتماعي، لا أن يهدمه.
هذا هو الطريق، وهذه هي القاعدة التي بدونها لن يكون للوطن مستقبلٌ مطمئن، ولا للتنمية أساسٌ ثابت، ولا للاستقرار معنى.

