في زمنٍ كان الناسُ فيه يحسبون للكلمة وزنها، ويقفون عند حدودها كما يقف المسافر عند تخوم وطنٍ يعرف أنّ عبورها يستلزم إذنًا أخلاقيًا قبل أن يكون قانونيًا، كنا مجتمعًا يهاب الخطوط الحمراء لا خوفًا، بل احترامًا لمعنى العيش المشترك. كنا نختلف بقدر ما نتحاور، ونتجادل بقدر ما نحتكم للعقل، ونسائل الوقائع قبل أن نُصدر الأحكام. كانت الضمائر أكبر من الضجيج، وكانت الوجوه تتغيّر كلما تغيّر الوعي، لا كلما تغيّرت المصالح.
اليوم، نعيد إنتاج أنفسنا في الدوامة ذاتها، نكرر الأخطاء ذاتها، ونرفع الوجوه ذاتها إلى الواجهة كما لو أنّ الزمن لم يتحرك قيد أنملة. نعيش دورةً مغلقة من السلوك الجمعي الذي لا يريد أن يتعلم، ولا يعرف كيف يقف أمام المرآة دون أن يجمّل صورته أو يختلق لها أعذارًا. أصبحنا نتدخل في كل شيء، نقفز فوق خصوصيات الآخرين، نمدّ أعيننا إلى ما لا يعنينا، ونمدّ ألسنتنا إلى ما لا نفقهه. لم نعد نعرف أين يجب أن نتوقف، ولا نملك شجاعة الاعتراف بأنّ الآخر ليس مساحةً مباحةً نقتحمها متى شئنا.
ن مارس نقدًا يحاكي الغضب لكنه يخلو من الحكمة، ونخلط الجرأة بالتهور، والحرية بالفوضى. نتحدث عن “الكرامة” بينما نطأ على كرامة بعضنا يوميًا، وعن “الاحترام” بينما نغيب أبسط قواعده في السلوك والخطاب والتعامل. نرفع شعارات العقل ونحن أوّل من يخون حكمته، ونتشدق بالحدود ونحن آخر من يعترف بوجودها.
كنا مجتمعًا يتدرّب على الارتقاء، يتقن فنّ الاختلاف، ويعرف أن العقل ميزانٌ لا يُعطّل. كنا نُحسن وزن الكلام، ونضبط المسافة بين الأنا والآخر، ونفهم أنّ الحياة المشتركة لا تقوم على الطغيان ولا على التدخل ولا على الاستباحة.
أصبحنا أشبه بمرآةٍ مضبّبة: نرى الآخرين بوضوحٍ مؤقت، ونرى أنفسنا بتشوّه دائم. نعيش في مساحة يعلو فيها الصوت على الفكر، والانفعال على الرصانة، والمصالح على المبادئ. أصبحنا نعيد تدوير نفس النبرة، نفس الخطاب، نفس الاخفاقات، ونفس ردود الفعل، حتى تبدو حياتنا العامة كأنها مسرحية قديمة بأدوار ثابتة وممثلين لا يغادرون الخشبة.
ليس هذا لجلدًا الذات، بل دعوة إلى استعادة ما فقدناه: احترام العقل، احترام الحدود، احترام الآخر. دعوة إلى التوقف عن الدوران في الدوامة ذاتها، ووضع نقطة فاصلة بين من كنا ومن أصبحنا، قبل أن نصحو يومًا على حقيقةٍ مرة: أننا لم نتغير لأننا لم نرد أن نتغير.

